الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

يقول المنفلوطى فى رائعته النظرات متحدثا عن هذا العالم 

نظرت إليه نظر الغريب الحائر إلى بلد لا عهد له به، ولا سكن له فيه فرأيت مخازيه وشروره وظلمة أجوائه، واغبرار سمائه، وقتال الناس بعضهم بعضا على الذرة والحبة، والنسمة والهبوة، واتساع مسافة الخلف بين دخائل القلوب وملامح الوجوه، وسلطان القوة على الحق، وغلبة الجهل على العلم، واقفار القلوب من الرحمة، وجمود العيون عن البكاء، وعجز الفقراء عن فتات موائد الأغنياء، وتمضغ الأغنياء بلحوم  الفقراء، ورأيت الترائي بالرذيلة حتى ادعاها لنفسه، وأنحلها إياها من لا يتخلق بها طلبًا لرضى الناس عنه برضاه عنها، ورأيت البراءة من الفضيلة حتى فر بها صاحبها من وجوه الساخرين به، والناقمين عليه فرار العاري بسوأته، والموسوم بخزيته، ورأيت الرجل والمرأة وقد سرًّا كل منهما ثوبه عن جسمه وألقاه بين يديه، ثم تقايضا فلبست قباءه، وليس غلالتها فأصبح امرأة لها من النساء التكسر والتبرد، وأصبحت رجلًا من الرجال والتوقح والتشطر ورأيت الدين وهو دوحة السلام الخضراء التي يستظل بها الضاحون من لفحات الحياة، وزفراتها قد استحال في أيدي الناس إلى سهام مسمومة يحاول كل منهم أن يصيب بها كبد أخيه فلا يخطئها، ورأيت ضلال الأسماء عن مسمياتها، وحيرة مسمياتها بينها، واضطراب الحدود والتعاريف عن أماكنها ومواقفها حتى دخل فيها مالم يكن داخلا، وخرج منها مالم يكن خارجا، فسمى الشح اقتصادا والكرم إسرافا والحلم جبنًا، والسماجة جرأة والسفاهة براعة، والفجور فتوة والتبذل حرية، واشتبهت طرق الفضيلة ومسالكها على من يريد ركوبها لأنه يجد على رأس كل واحدة منها زعيما من زعماء الخديعة، والكذب يصرفه عنها إلى غيرها.